فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ونوقش في هذا بأنه إنما يصح أن لو كان الفلك ساكنًا والكوكب متحركًا إذ لو كان الفلك متحركًا جاز أن يكون مربعًا وتكون مساواة أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار وتساوي مقادير الإجرام للكواكب حاصلة، وفي الأول بأنه إنما يصح لو كان الاعتبار المذكور موجودًا في كل خط من خطوط الطول والعرض ولا يخفى جريان كل من المناقشتين في كل من الدليلين، ولهم غير ذلك من الأدلة مذكورة بما لها وعليها في مطولات كتبهم.
{وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ} أي أولادهم، قال الراغب: الذرية أصلها الصغار من الأولاد ويقع في التعارف على الصغار والكبار معا ويستعمل للواحد والجمع وأصله للجمع، وفيه ثلاثة أقوال فقيل هو من ذرأ الله الخلق فترك همزته نحو برية وروية، وقيل: أصله ذروية، وقيل: هو فعلية من الذر نحو قمرية واستظهر حمله على الأولاد مطلقًا أبو حيان، وجوز غير واحد أن يحمل على الكبار لأنهم المبعوثون للتجارة أي حملناهم حين يبعثونهم للتجارة {فِى الفلك} أي السفينة سميت بذلك على ما في مجمع البيان لأنها تدور في الماء {المشحون} أي اللمملوء، وقيل: هو مستعمل على أصله وهم الأولاد الصغار الذين يستصحبونهم، وقيل: المراد به النساء فإنه يطلق عليهن، وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل الدراري وفسر بالنساء.
وفي الفائق قال حنظلة الكاتب: «كنا في غزاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى امرأة مقتولة فقال: هاه ما كانت هذه تقاتل الحق خالدًا وقل لا تقتلن ذرية ولا عسيفا»، وهي نسل الرجل وأوقعت على النساء كقولهم للمطر سماء ويراد بالنساء اللاتي يستصحبونهن وتخصيص الذرية على هذين القولين بالذكر لأن استقراره وتماسكهم في الفلك أعجب، وقيل: تطلق الذرية على الآباء وعلى الابناء قاله أبو عثمان.
وتعقبه ابن عطية بأنه تخليط لا يعرف في اللغة، وقيل: الذرية النطف والفلك المشحون بطون النساء ذكره الماوردي ونسب إلى علي كرم الله تعالى وجهه، والظاهر أنه لم يصح ذلك عنه رضي الله تعالى عنه وفي الآية ما يبعده وهو أشبه شيء بتأويلات الباطنية، والمراد بالفلك جنسه والوصف بالمشحون أقوى في الامتنان بسلامتهم فيه، وقيل: لأنه أبعد من الخطر، وإرادة الجنس مروية عن ابن عباس. ومجاهد. والسدى وفسر ما في قوله تعالى: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} عليه بالابل فإنها سفائن البر لكثرة ما تحمل وقلة كلالها في المسير، واطلاق السفائن عليها شائع كما قيل:
سفائن بر والسراب بحارها

وروي ذلك عن الحسن وعبد الله بن سداد، وفسره مجاهد بالأنعام الإبل وغيرها، وعن أبي مالك وأبي صالح وغيرهما وهي رواية عن ابن عباس أيضًا أن المراد بالفلك سفينة نوح عليه السلام على أن التعريف للعهد فما عبارة عما سمعت أيضًا عند بعض وعند آخرين هي السفن والزوارق التي كانت بعد تلك السفينة.
واستشكل حمل ذريتهم في سفينة نوح عليه السلام.
وأجيب بأن ذلك يحمل آبائهم الأقدمين وفي أصلابهم هؤلاء وذريتهم، وتخصيص الذرية مع أنهم محمولون بالتبع لأنه أبلغ في الامتنان حيث تضمن بقاء عقبهم وادخل في التعجب ظاهرًا حيث تضمن حمل ما لا يكاد يحصى كثرة في سفينة واحدة مع الإيجاز لأنه كان الظاهر أن يقال حملتاهم ومن معهم ليبقى نسلهم فذكر الذرية يدل على بقاء النسل وهو يستلزم سلامة أصولهم فدل بلفظ قليل على معنى كثير، وقال الإمام: يحتمل عندي أن التخصيص لأن الموجودين كانوا كفارًا لا فائدة في وجودهم أي لم يكن الحمل حملًا لهم وإنما كان حملًا لما في أصلابهم من المؤمنين، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي حملنا ذريات جنسهم وهو كما ترى، وقيل: ضمير {لَهُمْ} لأهل مكة وضمير {ذُرّيَّتُهُم} للقرون الماضية الذين هم منهم وحكى ذلك عن علي بن سليمان وليس بشيء، وجوز الإمام كون الضميرين للعباد في قوله تعالى: {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30] ولا يكون المراد في كل أشخاصًا معينين بل ذلك على نحو هؤلاء القوم هم قتلوا أنفسهم على معنى قتل بعضهم بعضًا فالمعنى آية لكل بعض منهم أنا حملنا ذرية كل بعض منهم أو ذرية بعض منهم وفيه من البعد ما فيه، ورجح تفسير {مَا} بالإبل ونحوها من الأنعام دون السفن بأن المتبادر من الخلق الإنشاء والاختراع فيبعد أن يتعلق بما هو مصنوع العباد.
وتعقب بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى عند أهل الحق وتبادر الإنشاء ممنوع وعليه يكون في الآية رد على المعتزلة كما قيل في قوله تعالى: {والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] على تقدير كون ما موصولة، و{مِنْ} تحتمل أن تكون للبيان وأن تكون للتبعيض؛ وجوز زيادتها على نظر الأخفش ورأيه، والظاهر أن ضمير {لَهُمْ} الثاني عائد على ما عاد عليه ضمير الأول، وجوز عوده على الذرية، وجوز أيضًا عود ضمير {مّثْلِهِ} على معلوم غير مذكور تقديره من مثل ما ذكرنا من المخلوقات في قوله سبحانه: {سبحان الذي خَلَق الازواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض} [يس: 36] وهو أبعد من العيوق، وأيًا ما كان فلا يخفى مناسبة هذه الآية لقوله تعالى: {كُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] وإنما لم يؤت بها على أسلوب إخواتها بأن يقال وآية لهم الفلك حملنا ذريتهم فيه كما قال سبحانه: {وَءايَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أحييناها} [يس: 33] {وَءايَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] لأنه ليس الفلك نفسه عجبًا وإنما حملهم فيه هو العجب.
وقرأ نافع وابن عامر والأعمش وزيد بن علي وأبان بن عثمان {ذرياتهم} بالجمع، وكسر زيد وأبان الذال.
{وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)}.
{وَإِن نَّشَأْ} إغراقهم {نُغْرِقْهُمْ} في الماء مع ما حملناهم فيه من الفلك وما يركبون من السفن والزوارق فالكلام من تمام ما تقدم فإن كان المراد ب {ما} [يس: 42] هناك السفن والزوارق فالأمر ظاهر وإن كان المراد بها الإبل ونحوها كان الكلام من تمام صدر الآية أي نغرقهم مع ما حملناهم فيه من الفلك وكان حديث خلق الإبل ونحوها في البين استطرادًا للتماثل، ولما في ذلك من نوع بعد قيل إن قوله سبحانه: {وَإِن نَّشَأْ} الخ يرجح حمل {الفلك} [يس: 41] على الجنس و{مَا} على السفن والزوارق الموجودة بين بني آدم إلى يوم القيامة، وفي تعليق الإغراق بمحض المشيئة اشعار بأنه قد تكامل ما يستدعى اهلاكهم من معاصيهم ولم يبق إلا تعلق مشيئته تعالى به، وقيل إن ذلك ذلك إشارة إلى الرد على من يتوهم إن حمل الفلك الذرية من غير أن يغرق أمر تقتضيه الطبيعة ويستدعيه امتناع الخلاء، وقرأ الحسن {نُغْرِقْهُمْ} بالتشديد {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} أي فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق، وتفسير الصريخ بالمغيث مروى عن مجاهد وقتادة، ويكون بمعنى الصارخ وهو المستغيث ولا يراد هنا، ويكون مصدرًا كالصراخ ويتجوز به عن الاغاثة لأن المستغيث ينادي من يستغيث به فيصرح له ويقول جاءك العون والنصر قال المبرد في أول الكامل: قال سلامة بن جندل:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ** كان الصراخ له فزع المطانيب

يقول إذا أتانا مستغيث كانت إغاثته الجد في نصرته، وجوز إرادته هنا أي فلا إغاثة لهم {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ} أي ينجون من الموت به بعد وقوعه.
{إِلاَّ رَحْمَةً مّنَّا وَمَتَاعًا}.
استثناء مفرغ من أعم العلل الشاملة للباعث المتقدم والغاية المتأخرة أي لا يغاثون ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلا لرحمة عظيمة من قبلنا داعية إلى الإغاثة والإنقاذ وتمتيع بالحياة مترتب عليهما، ويجوز أن يراد بالرحمة ما يقارن التمتيع بالحياة الدنيوية فيكون كلاهما غاية للإغاثة والإنقاذ أي لنوع من الرحمة وتمتيع، وإلى كونه استثناء مفرغًا مما يكون مفعولًا لأجله ذهب الزجاج والكسائي، والاستثناء على ما يقتضيه الظاهر متصل، وقيل: الاستثناء منقطع على معنى ولكن رحمة منا ومتاع يكونان سببًا لنجاتهم وليس بذاك، وجوز أن يكون النصب بتقدير الباء أي إلا برحمة ومتاع، والجار متعلق بينقذون ولما حذف انتصب مجروره بنزع الخافض.
وقيل هو على المصدرية لفعل محذوف أي إلا أن نرحمهم رحمة ونمتعهم تمتيعًا، ولا يخفى حاله وكذا حال ما قبله {إلى حِينٍ} أي إلى زمان قدر فيه حسبما تقتضيه الحكمة آجالهم، ومن هنا أخذ أبو الطيب قوله:
ولم أسلم لكي أبقى ولكن ** سلمت من الحمام إلى الحمام

والظاهر أن المحدث عنه من يشاء الله تعالى إغراقهم، وقال ابن عطية: إن {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} [يس: 43] الخ استئناف أخبار عن المسافرين في البحر ناجين كانوا أو مغرقين أي لا نجاة لهم إلا برحمة الله تعالى، وليس مربوطًا بالمغرقين وقد يصح ربطه به والأول أحسن فتأمله. اهـ.
وقد تأملناه فوجدناه لا حسن فيه فضلا عن أن يكون أحسن.
والفاء ظاهرة في تعلق ما بعدها بما قبلها. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ} أي والليل آية لهم.. وقال تعالى: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ} جملة حاليّة من اللي.
وسلخ النهار من الليل، كشطه عنه، وإزالة القشرة النورانية التي تكسوه، كما يكسو الجلد الحيوان.. فإذا سلخت هذه القشرة النورانية عن كيان الكائنات، سادها الظلا.
وفى قال تعالى: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ}- إشارة إلى حركة انسحاب النور، بحركة الأرض، ودورانها حول الشمس، فينسلخ النور شيئا فشيئا عن الأماكن التي تطلع عليها الشمس، وذلك كما يسلخ الجلد عن الحيوان، شيئا فشيئا.. لا دفعة واحد.
وفى قال تعالى: {فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ}- إشارة إلى أن كل إنسان يكتسى من النور حلة، فإذا سلخت عنه صار جسما معتما مظلما، وأصبح قطعة من هذا الظلام، تجتمع قطعه بعضها إلى بعض، فإذا هي اللي.
قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي وآية لهم الشمس.. فهذه الشمس تسير في مدار محدود لها، وتتحرك في فلك لا تتعداه ولا تخرج عنه.. وذلك بتقدير {العزيز} ذى العزة والسلطان {العليم} الذي تجرى أحكامه ومقاديره بعلم نافذ إلى كل شىء، متمكن من كل كبيرة وصغيرة في هذا الوجود.
وجريان الشمس، هو حركتها في فلكها المرسوم لها. وهى تقطع دورة هذا الفلك في سنة كاملة، وفي سرعة مذهلة.
قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} أي أن القمر يأخذ كل ليلة منزلا من الأرض، على مدى شهر قمرى، ففى أوسط منازله يبدو قمرا منيرا، يغمر نور الشمس وجهه كله المواجه للأرض، المتوسطة بينه وبين الشمس، فيرى بدرا كاملا، ثم يرجع إلى الوراء منزلة كل ليلة، وذلك لبطء دورانه عن دوران الأرض، فيقلّ مع كل ليلة أو منزلة، الوجه المقابل منه للشمس، ويظل يتناقص شيئا فشيئا مدة نصف شهر قمرى، حتى يكون وجهه المواجه للأرض متوسطا بين الأرض والشمس، وهنا يكون وجهه المواجه للشمس مضيئا بضوئها، على حين يكون وجهه المواجه للأرض معتما، فإذا نزل منزلته في آخر ليلة لم ير من وجهه شىء، وسمى محاقا، لأن نوره الذي كان يبدو منه قد محق.. ثم يبدأ يولد من جديد.. فإذا كانت الليلة الأولى أو المنزلة الأولى لمولده، لم ير منه إلا قوس صغير، أشبه بقلامة الظّفر، ويسمى هلالا، غائرا في الشفق، فيختلط الضوء القليل الذي يبدو منه بحمرة الشفق، فيكون له تلك الصورة التي صورها له القرآن الكريم أدق تصوير وأروعه، حين شبهه بالعرجون القدي.
والعرجون، هو عذق النخلة، الذي يحمل النمر، ومنه تتدلى عناقيد النمر، ولونه أصفر، فإذا جفّ، وطال عليه الزمن تقوس شكله وصار لونه ضاربا إلى الحمرة الداكنة.. وهذه التحركات والتغيرات التي تظهر على وجه القمر ليلة بعد ليلة، جديرة بأن تستثير التفكير والتأمل، وأن تدعو العقل إلى النظر فيما وراء هذه المنظر الظاهر للقمر، إلى وضعه في المجموعة الشمسية، وإلى صلته بالأرض، وإلى إمكان الوصول إليه، ولو على سبيل الفرض أولا، ثم اتخاذ الأسباب التي يمكن تحقيق هذا الفرض بها.. إن الملاحظة للشىء، هي الطريق الطبيعي للكشف عن حقيقته.. وليس مثل هذا العرض الذي عرضه القرآن الكريم للقمر داعية إلى الملاحظة والتأمل، لو أن ذلك وجد همما متطلعة، وعزائم جادة..!
قال تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي أن من قدرة اللّه سبحانه وتعالى، ومن إحكام علمه، أن أجرى هذه العوالم بعلمه، وسخّرها بقدرته، وأقامها على نظام محكم، وأجراها في مجار لا تتعداها.. فلا يصطدم بعضها ببعض، ولا يأخذ بعضها من بعض وضعا غير الذي أقامه اللّه فيه.. فلا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر. فهى مع سرعتها المذهلة، التي تبلغ ألوف المرّات بالنسبة لسرعة القمر فإنها لا تدرك.
فهى لها فلك تدور فيه، كما للقمر فلكه الذي يدور في.
وكما أن الشمس لا تدرك القمر، كذلك الليل لا يسبق النهار، إنهما يجريان بحيث يتبع أحدهما الآخر، دون أن يسبقه.. {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.
وجعل الليل وراء النهار، لأن النهار أسبق من الليل هي دورة الأرض حول نفسها من الغرب إلى الشرق.. فالأرض في دورانها حول نفسها من الغرب إلى الشرق، إنما تجرى نحو النور، ومن وراء النور الظلام.. فالنور دائما أمام الظلام، وهما معا في حركة وجريان. فالآية الكريمة تشير إلى حركة الأرض وإلى دورانها حول نفسها من الغرب إلى الشر.
واستعمل مع هذه العوالم ضمير العقلاء- إشارة إلى هذا النظام المحكم الممسك بها، والذي يقيمها على طريق مستقيم، كما يقيم العقل السليم صاحبه على طريق مستقي.
قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}.
أي ومن آياتنا التي نعرضها على هؤلاء المشركين، والتي تحمل إليهم الدلائل على قدرتنا، وإحساننا- أننا {حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}.
والفلك. يطلق على الواحد والجمع من السفن، قال تعالى: {فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا}.
فهى هنا سفينة واحدة، وقال تعالى: {حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} وهى هنا جمع.. والمراد بها في الآية الجمع كذلك، لأنه وصف بمذكر، وهو قال تعالى: {الْمَشْحُونِ} وعاد عليها الضمير كذلك مذكرا في قال تعالى: {وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ}.
فعومل بهذا معاملة الجنس.. والمشحون: الممتل.
والمراد بالذرية: الأبناء، وهى، تجمع على ذرارى، وذريات، وأصلها من الذرء، وهو إظهار الشيء، يقال ذرأ اللّه الخلق، أي أوجد أشخاصهم، والذرأة بياض الشعر.. وفي الإشارة إلى حمل ذرياتهم دون حمل آبائهم إلفات إلى ما تحمل الفلك لهم من فلذات أكباد، ونفائس أموال وأمتعة، فتحفظها، وتصل بها إلى غايتها.. وفي هذا ما يريهم فضل اللّه عليهم، وإحسانه بهم، فقد لا يرى الإنسان فضل النعمة، ولا يقدرها قدرها إذا هي لبسته هو، فإذا رآها في غيره عرف لها قدرها، وذكر فضله.
قال تعالى: {وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ} معطوف على قال تعالى: {حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ} أي وآية لهم أنا خلقنا لهم من مثل هذا الفلك، مراكب يركبونها في البر، وهى الإبل التي تسمى سفائن الصحراء، والخيل، والبغال والحمير، وغيرها مما يركب، ويحمل علي.
قال تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعًا إِلى حِينٍ} أي أنه إذا كان من قدرة اللّه أن سخّر الفلك لتجرى في البحر بأمره، فلا يغرق راكبوهم فإن من قدرته سبحانه أن يغرق هذه السفن، بمن فيها من أولاد وأموال، فلا يجدون من يسمع لهم صراخا، أو يستجيب لهم، أو يقدر على إنقاذهم إن سمع واستجاب.. فهم هلكى لا محالة، إلّا أن تتداركهم رحمة اللّه، وإلا أن تكون لهم بقية من أج.
فقال تعالى: {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعًا إِلى حِينٍ} استثناء من قال تعالى: {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} أي لا ينقذهم منقذ أبدا إلا رحمة اللّه، وما لهم من أجل لم ينته بعد.. اهـ.